سورة طه - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


الونى: الفتور، يقال: ونى يني وهو فعل لازم، وإذا عُدِيَّ فبعن وبفي وزعم بعض البغداديين أنه يأتي فعلاً ناقصاً من أخوات ما زال وبمعناها، واختاره ابن مالك وأنشد:
لا يني الخب شيمة الحب *** ما دام فلا تحسبنه ذا ارعواء
وقالوا: امرأة آنآءة أي فاترة عن النهوض، أبدلوا من واوها همزة على غير قياس. قال الشاعر:
فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر ***
{اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فائتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون فلما دعا ربه وطلب منه أشياء كان فيها أن يشرك أخاه هارون فذكر الله أنه آتاه سؤله وكان منه إشراك أخيه، فأمره هنا وأخاه بالذهاب و{أخوك} معطوف على الضمير المستكن في {اذهب أنت وربك} في سورة المائدة وقول بعض النحاة، أن {وربك} مرفوع على إضمار فعل، أي وليذهب ربك وذلك البحث جار هنا. وروي أن الله أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل: سمع بمقدمه. وقيل: ألهم ذلك وظاهر {بآياتي} الجمع. فقيل: هي العصا، واليد، وعقدة لسانه. وقيل: اليد، والعصا. وقد يطلق الجمع على المثنى وهما اللتان تقدم ذكرهما ولذلك لما قال: فائت بآية ألقى العصا ونزع اليد، وقال: فذانك برهانان. وقيل العصا مشتملة على آيات انقلابها حيواناً، ثم في أول الأمر كانت صغيرة ثم عظمت حتى صارت ثعباناً، ثم إدخال موسى يده في فمها فلا تضرّه. وقيل: ما أعطي من معجزة ووحي.
{ولا تنيا} أي لا تضعفا ولا تقصرا. وقيل: تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما، ويجوز أن يراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها، فكان جديراً أن يطلق عليه اسم الذكر. وقرأ ابن وثاب: ولا تِنَيَا بكسر التاء اتّباعاً لحركة النون. وفي مصحف عبد الله ولا تهنا أي ولا تلنا من قولهم هين لين، ولما حذف من يذهب إليه في الأمر قبله نص عليه في هذا الأمر الثاني. فقيل: {اذهبا إلى فرعون} أي بالرسالة وأبعد من ذهب إلى أنهما أمرا بالذهاب أولاً إلى الناس وثانياً إلى فرعون، فكرر الأمر بالذهاب لاختلاف المتعلق، ونبه على سبب الذهاب إليه بالرسالة من عنده بقوله {إنه طغى} أي تجاوز الحد في الفساد ودعواه الربوبية والإلهية من دون الله.
والقول اللين هو مثل ما في النازعات {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} وهذا من لطيف الكلام إذ أبرز ذلك في صورة الاستفهام والمشورة والعرض لما فيه من الفوز العظيم. وقيل: عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. وقيل: لا تجبهاه بما يكره وألطفا له في القول لما له من حق تربية موسى. وقيل: كنياه وهو ذو الكنى الأربع أبو مرة، وأبو مصعب، وأبو الوليد، وأبو العباس. وقيل: القول اللين لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولِينها خفتها على اللسان. وقال الحسن: هو قولهما إن لك ربًّا وإن لك معاداً وإن بين يديك جنة وناراً فآمن بالله يدخلك الجنة يقِكَ عذاب النار. وقيل: أمرهما تعالى أن يقدما المواعيد على الوعيد كما قال الشاعر:
أقدم بالوعد قبل الوعيد *** لينهى القبائل جهالها
وقيل: حين عرض عليه موسى وهارون عليهما السلام ما عرضا شاور آسية فقالت: ما ينبغي لأحد أن يرد هذا فشاور هامان وكان لا يبت أمراً دون رأيه، فقال له: كنت أعتقد أنك ذو عقل تكون مالكاً فتصير مملوكاً ورباً فتصير مربوباً فامتنع من قبول ما عرض عليه موسى، والترجي بالنسبة لهما إذ هو مستحيل وقوعه من الله تعالى أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه، وفائدة إرسالهما مع علمه تعالى أنه لا يؤمن إقامة الحجة عليه وإزالة المعذرة كما قال تعالى: {ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبله} الآية.
وقيل: القول اللين ما حكاه الله هنا وهو {فأتياه فقولا إنا رسولا ربك}- إلى قوله- {والسلام على من اتبع الهدى} وقال أبو معاذ: {قولاً ليناً} وقال الفراء لعل هنا بمعنى كي أي كي يتذكر أو يخشى كما تقول: اعمل لعلك تأخذ أجرك، أي كي تأخذ أجرك. وقيل: لعل هنا استفهام أي هل يتذكر أو يخشى، والصحيح أنها على بابها من الترجِّي وذلك بالنسبة إلى البشر وفي قوله {لعله يتذكر أو يخشى} دلالة على أنه لم يكن شاكاً في الله. وقيل: {يتذكر} حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخرَّ ساجداً لله راغباً أن لا يخجله ثم ركب فأخذ النيل يتبع حافر فرسه فرجاً أن يتذكر حلم الله وكرمه وأن يحذر من عذاب الله. وقال الزمخشري: أي {يتذكر} ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذغان للحق {أو يخشى} أن يكون الأمر كما يصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة.
فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط تسبق الخيل انتهى. وقال الشاعر:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا *** كما تقدم فارط الوراد
وفي الحديث: «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدمكم وسابقكم، والمعنى إننا نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها. وقرأ يحيى وأبو نوفل وابن محيصن في روايته {أن يفرط} مبنياً للمفعول أي يسبق في العقوبة ويسرع بها، ويجوز أن يكون من الإفراط ومجاوزة الحد في العقوبة خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعذاب من شيطان، أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية، أو من حبه الرياسة، أو من قومه القبط المتمرّدين الذين قال الله فيهم {قال الملأ من قوم فرعون} {وقال الملأ من قومه} وقرأت فرقة والزعفراني عن ابن محيصن {يُفْرِط} بضم الياء وكسر الراء من الإفراط في الأذية {أو أن يطغى} في التخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي تجرئة عليك وقسوة قلبه، وفي المجيء به هكذا على سبيل الإطلاق والرمز باب من حسن الأدب والتجافي عن التفوه بالعظيمة.
والمعية هنا بالنصرة والعون أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما. وقال ابن عباس {أسمع} جوابه لكما {وأرى} ما يفعل بكما وهما كناية عن العلم {فأتياه} كرر الأمر بالإتيان {فقولا إنا رسولا ربك} وخاطباه بقولهما {ربك} تحقيراً له وإعلاماً أنه مربوب مملوك إذ كان هو يدَّعي الربوبية. وأُمرا بدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من ذل خدمة القبط وكانوا يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرة في كل شيء مع قتل الولدان واستخدام النساء. وقد ذكر في غير هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان فجملة ما دعى إليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل.
ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا {قد جئناك بآية من ربك} وتكرر أيضاً قولهما {من ربك} على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور، والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد، ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما. وقال الزمخشري: {قد جئناك بآية من ربك} جارية من الجملة الأولى وهي {إنّا رسولا ربك} مجرى البيان والتفسير، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية، وإنما وحد بآية ولم يثن ومعه آيتان لأن المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك {قد جئتكم ببينة من ربكم} {فأت بآية إن كنت من الصادقين} {أو لو جئتك بشيء مبين} انتهى. وقيل: الآية اليد. وقيل: العصا، والمعنى بآية تشهد لنا بأنا رسولا ربك. والظاهر أن قوله {والسلام على من اتبع الهدى} فصل للكلام، فالسلام بمعنى التحية رغباً به عنه وجرياً على العادة في التسليم عند الفراغ من القول، فسلما على متبعي الهدى وفي هذا توبيخ له.
وفي هذا المعنى استعمل الناس هذه الآية في مخاطباتهم ومحاوراتهم. وقيل: هو مدرج متصل بقوله {إنا قد أوحي إلينا} فيكون إذ ذاك خبراً بسلامة المهتدين من العذاب. وقيل {على} بمعنى اللام أي والسلامة لمن {اتبع الهدى}.
وقال الزمخشري: وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين، وتوبيخ خزَنة النار والعذاب على المكذبين انتهى. وهو تفسير غريب.
وقد يقال: السلام هنا السلامة من العذاب بدليل قوله {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} وبنى {أُوحِي} لما لم يسم فاعله، ولم يذكر الموحى لأن فرعون كانت له بادرة فربما صدر منه في حق الموحى ما لا يليق به، والمعنى على من كذب الأنبياء وتولى عن الإيمان. وقال ابن عباس هذه أرجى آية في القرآن لأن المؤمن ما كذب وتولى فلا يناله شيء من العذاب. وفي الكلام حذف تقديره فأتيا فرعون وقالا له ما أمرهما الله أن يبلغاه قال {فمن ربكما يا موسى} خاطبهما معاً وأفرد بالنداء موسى. قال ابن عطية: إذ كان صاحب عظم الرسالة وكريم الآيات. وقال الزمخشري لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه، ويحتمل أن يحمله خبثه وذعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى، ويدل عليه قوله {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} انتهى.
واستبد موسى عليه السلام بجواب فرعون من حيث خصه بالسؤال والنداء معاً ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا حيث خصه بالسؤال والنداء معاً ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا بوجه مجاز. قال الزمخشري: ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالباً للحق انتهى. والمعنى أعطى كل ما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ولكن خلق كل شيء فقدره تقديراً. وقال الشاعر:
وله في كل شيء خلقة *** وكذلك الله ما شاء فعل
وهذا قول مجاهد وعطية ومقاتل وقال الضحاك {خلقه} من المنفعة المنوطة به المطابقة له {ثم هدى} أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه، فأعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه. قال القشيري: والخلق المخلوق لأن البطش والمشي والرؤية والنطق معان مخلوقة أودعها الله للأعضاء، وعلى هذا مفعول {أعطى} الأول {كل شيء} والثاني {خلقه} وكذا في قول ابن عباس وابن جبير والسدّي وهو أن المعنى {أعطى كل شيء} مخلوقه من جنسه أي كل حيوان ذكر نظيره أنثى في الصورة.
فلم يزاوج منهما غير جنسه ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وعن ابن عباس أنه هداه إلى إلفه والاجتماع به والمناكحة. وقال الحسن وقتادة {أعطى كل شيء} صلاحه وهداه لما يصلحه.
وقيل {كل شيء} هو المفعول الثاني لأعطى و{خلقه} المفعول الأول أي {أعطى} خليقته {كل شيء} يحتاجون إليه ويرتفقون به. وقرأ عبد الله وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو نهيك وابن أبي إسحاق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي وابن نوح عن قتيبة وسلام خَلَقَهُ بفتح اللام فعلاً ماضياً في موضع الصفة لكل شيء أو لشيء، ومفعول {أعطى} الثاني حذف اقتصاراً أي {كل شيء خلقه} لم يخله من عطائه وإنعامه {ثم هدى} أي عرف كيف يرتفق بما أعطى وكيف يتوصل إليه. وقيل: حذف اختصاراً لدلالة المعنى عليه، أي {أعطى كل شيء خلقه} ما يحتاج إليه وقدره ابن عطية كماله أو مصلحته.
{قال فما بال القرون الأولى} لما أجابه موسى بجواب مسكت، ولم يقدر فرعون على معارضته فيه انتقل إلى سؤال آخر وهو ما حال من هلك من القرون، وذلك على سبيل الروغان عن الاعتراف بما قال موسى وما أجابه به، والحيدة والمغالطة. قيل: سأله عن أخبارها وأحاديثها ليختبر أهما نبيان أو هما من جملة القُصّاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة، ولم يكن عنده عليه السلام علم بالتوراة إنما أنزلت عليه بعد هلاك فرعون فقال {علمها عند ربي}. وقيل: مراده من السؤال عنها لم عبدت الأصنام ولم تعبد الله إن كان الحق ما وصفت؟ وقيل: مراده ما لها لا تبعث ولا تحاسب ولا تُجَازَى فقال {علمها عند ربي} فأجابه بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به لا يعلمه إلاّ هو. وقال النقاش: إنما سأل لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون {يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب} الآية فرد علم ذلك إلى الله لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة. وقيل لما قال {إنّا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} قال فرعون {فما بال القرون الأولى} فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا. وقيل: لما قرر أمر المبدأ والدلالة القاطعة على إثبات الصانع قال فرعون: إن كان ما ذكرت في غاية الظهور فما بال القرون الأولى نسوه وتركوه، فلو كانت الدلالة واضحة وجب على القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها. فعارض الحجة النقلية، ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم فتعنت وقال: ما تقول في سوالف القرون وتمادي كثرتهم وتباعد أطراف عددهم، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم، فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه وهو مثبت عنده {في كتاب} ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل، أي {لا يضل} كما تضل أنت {ولا ينسى} كما تنسى يا مدّعي الربوبية بالجهل والوقاحة قاله الزمخشري.
والظاهر عود الضمير في {علمها} إلى {القرون الأولى} أي مكتوب عند ربي في اللوح المحفوظ لا يجوز عليه أن يخطئ شيئاً أو ينساه، يقال: ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه، وضللته لغتان فلم يهتد إليه كقولك: ضللت الطريق والمنزل ولا يقال أضللته إلاّ إذا ضاع منك كالدابة إذا انفلتت وشبهها قاله الفراء. وقال الزجاج: ضللته أضله إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو، وأضللته والكتاب هنا اللوح المحفوظ. وقيل {في كتاب} فيما كتبته الملائكة من أحوال البشر. وقيل: الضمير في {علمها} عائد على القيامة لأنه سأله عن بعث الأمم. وقال السدّي {لا يضل} لا يغفل. وقال ابن عيسى {لا يضل} لا يذهب عليه تقول العرب ضل منزله بغير ألف. وفي الحيوان أضل بعيره بالألف. وقيل: التقدير {لا يضل ربي} الكتاب {ولا ينسى} ما فيه قاله مقاتل. وقال القفال {لا يضلْ} عن معرفة الأشياء فيحيط بكل المعلومات {ولا ينسى} إشارة إلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد على حاله لا يتغير. وقال الحسن: لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه.
وقال مجاهد: معنى الجملتين واحد وهو إشارة إلى أنه لا يعرض في علمه ما يغيره. وقال ابن جرير: لا يخطئ في التدبير فيعتقد في غير الصواب صواباً وإذا عرفه لا ينساه، وقال أبو عبد الله الرازي: علم الله صفة قائمة به ولا تكون حاصلة في الكتاب لأن ذلك لا يعقل، فالمعنى أن بقاء تلك المعلومات في علمه كبقاء المكتوبات في الكتاب، فالغرض التوكيد بأن أسرارها معلومة له لا يزول شيء منها، ويتأكد هذا بقوله {لا يضل ربي ولا ينسى} أو المعنى أنه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده يظهر للملائكة زيادة لهم في الاستدلال على أنه عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة انتهى. وفيه بعض تلخيص.
وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفي لا يُضِلُّ بضم الياء أي {لا يضلّ} الله ذلك الكتاب فيضيع {ولا ينسى} ما أثبته فيه. وقرأ السلمي لا يُضِلُّ ربِيَ ولا يُنْسَى مبنيتين للمفعول، والظاهر أن الجملتين استئناف وإخبار عنه تعالى بانتفاء هاتين الصفتين عنه. وقيل: هما في موضع وصف لقوله {في كتاب} والضمير العائد على الموصوف محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه. والظاهر أن الضمير في {ولا ينسى} عائد على الله. وقيل: يحتمل أن يعود على {كتاب} أي لا يدع شيئاً فالنسيان استعارة كما قال {إلاّ أحصاها} فأسند الإحصاء إليه من حيث الحصر فيه، وعن ابن عباس لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه.


شت الأمر شتاً وشتاتاً تفرّق، وأمر شتّ متفرّق؛ وشتى فعلى من الشت وألفه للتأنيث جمع شتيت كمريض ومرضى، ومعناه متفرقة، وشتان اسم فاعل سحت: لغة الحجاز وأسحت لغة نجد وتميم، وأصله استقصاء الحلق للشعر. وقال الفرزدق وهو تميمي:
وعض زمان يا ابن مروان لم يك *** من المال إلا مسحت أو محلق
ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب. الخيبة: عدم الظفر بالمطلوب. الصف: موضع المجمع قاله أبو عبيدة، وسمي المصلى الصف وعن بعض العرب الفصحاء ما استطعت أن آتي الصف أي المصلى، وقد يكون مصدراً ويقال جاؤوا صفاً أي مصطفين. التخييل: إبداء أمر لا حقيقة له، ومنه الخيال وهو الطيف الطارق في النوم. قال الشاعر:
ألا يا لقومي للخيال المشوق *** وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي
{الذي جعل لكم الأرض مهاداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً وقد أفلح اليوم من استعلى}.
ولما ذكر موسى دلالته على ربوبية الله تعالى وثم كلامه عند قوله {ولا ينسى} ذكر تعالى ما نبه به على قدرته تعالى ووحدانيته، فأخبر عن نفسه بأنه تعالى هو الذي صنع كيت وكيت، وإنما ذهبنا إلى أن هذا هو من كلام الله تعالى لقوله تعالى {فأخرجنا} وقوله {كلوا وارعوا أنعامكم} وقوله {ولقد أريناه} فيكون قوله {فأخرجنا} و{أريناه} التفاتاً من الضمير الغائب في {جعل} وسلك إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه، ولا يكون الالتفات من قائلين وأبعد من ذهب إلى أن الذي نعت لقوله {ربي} فيكون في موضع رفع أو يكون في موضع نصب على المدح وقالهما الحوفي والزمخشري لكونه كان يكون كلام موسى فلا يتأتى الالتفات في قوله {فأخرجنا} {ولقد أريناه}.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون {فأخرجنا} من كلام موسى حكاية عن الله تعالى على تقدير يقول عز وجل {فأخرجنا} ويحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله {وأنزل من السماء ماء} ثم وصل الله كلام موسى بإخباره لمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد بالخطاب في لكم الخلق أجمع نبههم على هذه الآيات.
وقرأ الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة والكسائي {مَهْداً} بفتح الميم وإسكان الهاء، وباقي السبعة مهاداً وكذا في الزخرف فقال المفضل: مصدران مهد مهداً ومهاداً. وقال أبو عبيد: مهاد اسم، ومهد الفعل يعني المصدر. وقال آخر {مهداً} مفرد ومهاد جمعه، ومعنى ذلك أنه تعالى جعلها لهم يتصرفون عليها في جميع أحوالهم ومنافعهم، ونهج لكم فيها طرقاً لمقاصدكم حتى لا تتعذر عليكم مصالحكم. والضمير في {به} عائد على الماء أي بسببه.
{أزواجاً} أي أصنافاً وهذا الالتفات في أخرجنا كهو في قوله {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا} {أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا} {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء} وفي هذا الالتفات تخصيص أيضاً بأنا نحن نقدر على مثل هذا، ولا يدخل تحت قدرة احد والأجود أن يكون {شتى} في موضع نصب نعتاً لقوله {أزواجاً} لأنها المحدث عنها.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة للنبات، والنبات مصدر سُمِّيَ به النابت كما سُمِّيَ بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع، يعني أنها {شتى} مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.
قالوا: من نعمته عز وجل أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله {كلوا وارعوا أنعامكم} أمر إباحة معمول لحال محذوفة أي {فأخرجنا} قائلين أي آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها، عُدِيّ هنا {وارعوا} ورعى يكون لازماً ومتعدياً تقول: رعت الدابة رعياً، ورعاها صاحبها رعاية إذا سامها وسرحها وأراحها قاله الزجاج. وأشار بقوله {إن في ذلك} للآيات السابقة من جعل الأرض مهداً وسلك سبلها وإنزال الماء وإخراج النبات. وقالوا {النُّهى} جمع نهية وهو العقل سُمِّيَ بذلك لأنه ينهى عن القبائح، وأجاز أبو علي أن يكون مصدراً كالهدى. والضمير في {منها} يعود على الأرض، وأراد خلق أصلهم آدم. وقيل: ينطلق الملك إلى تربة المكان الذي يدفن فيه من يخلق فيبددها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معاً قاله عطاء الخراساني. وقيل: من الأغذية التي تتولد من الأرض فيكون ذلك تنبيهاً على ما تولدت منها الأخلاط المتولد منها الإنسان فهو من باب مجاز المجاز {وفيها نعيدكم} أي بالدفن بها أو بالتمزيق عليها {ومنها نخرجكم تارة} بالبعث {تارة} مرة {أخرى} يؤلف أجزاءهم المتفرقة ويردّهم كما كانوا أحياء. وقوله {أخرى} أي إخراجة أخرى لأن معنى قوله {منها خلقناكم} أخرجناكم.
{ولقد أريناه آياتنا كلها} هذا إخبار من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن قوله {فأخرجنا} إنما هو خطاب له عليه السلام {أريناه آياتنا} هي المنقولة من رأي البصرية، ولذلك تعدت إلى اثنين بهمزة النقل و{آياتنا} ليس عاماً إذ لم يره تعالى جميع الآيات، وإنما المعنى آياتنا التي رآها، فكانت الإضافة تفيد ما تفيده الألف واللام من العهد.
وإنما رأى العصا واليد والطمسة وغير ذلك مما رآه فجاء التوكيد بالنسبة لهذه الآيات المعهودة. وقيل: المعنى آيات بكمالها وأضاف الآيات إليه على حسب التشريف كأنه قال آيات لنا. وقيل: يكون موسى قد أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم، وهو نبي صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به {فكذب بها} جميعاً {وأبى} أن يقبل شيئاً منها انتهى. وقاله الزمخشري وفيه بعد لأن الإخبار بالشيء لا يسمى رؤية إلا بمجاز بعيد.
وقيل: {أريناه} هنا من رؤية القلب لا من رؤية العين، لأنه ما كان أراه في ذلك الوقت إلا العصا واليد البيضاء أي ولقد أعلمنا {آياتنا كلها} هي الآيات التسع. قيل: ويجوز أن يكون أراد بالآيات آيات توحيده التي أظهرها لنا في ملكوت السموات والأرض فيكون من رؤية العين. وقال ابن عطية وأُبيّ: يقتضي كسب فرعون وهذا الذي يتعلق به الثواب والعقاب، ومتعلق التكذيب محذوف فالظاهر أنه الآيات واحتمل أن يكون التقدير {فكذب} موسى {وأَبَى} أن يقبل ما ألقاه إليه من رسالته.
قيل: ويجوز أن يكون أراد وكذب أنها من آيات الله وقال: من سحر، ولهذا {قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى} ويبعد هذا القول قوله {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ رب السموات والأرض بصائر} وقوله {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا} فيظهر أنه كذب لظلمه لا أنه التبس عليه أنها آيات سحر. وفي قوله {أجئتنا لتخرجنا} وهن ظهر منه كثير واضطراب لما جاء به موسى إذ علم أنه على الحق وأنه غالبه على ملكه لا محالة، وذكر علة المجيء وهي إخراجهم وألقاها في مسامع قومه ليصيروا مبغضين له جداً إذ الإخراج من الموطن مما يشق وجعله الله مساوياً للقتل في قوله {أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} وقوله {بسحرك} تعلل وتحير لأنه لا يخفى عليه أن ساحراً لا يقدر أن يخرج ملكاًَ مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر، وأورد ذلك على سبيل الشبهة الطاعنة في النبوة، وأن المعجز إنما يتميز عن السحر بكون المعجز مما تتعذر معارضته فقال {فلنأتينك بسحر مثله} ويدل على أن أمر موسى عليه السلام كان قد قَوِيَ وكثر منعته من بني إسرائيل ووقع أمره في نفوس الناس، إذ هي مقالة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه، وأرضهم هي أرض مصر وخاطبه بقوله {بسحرك} لأن الكلام كان معه والعصا واليد إنما ظهرتا من قبله {فلنأتينك} جواب لقسم محذوف، أوهم الناس أن ما جاء به موسى إنما هو من باب السحر وأن عنده من يقاومه في ذلك، فطلب ضرب موعد للمناظرة بالسحر.
والظاهر أن {موعداً} هنا هو زمان أي فعين لنا وقت اجتماع ولذلك أجاب بقوله {قال موعدكم يوم الزينة} ومعنى {لا نخلفه} أي لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه وقدره بعضهم مكاناً معلوماً وينبوعه قوله {موعدكم يوم الزينة}.
وقال القشيري: الأظهر أنه مصدر ولذلك قال {لا نخلفه} أي ذلك الموعد والإخلاف أن يعد شيئاً ولا ينجزه. وقال الزمخشري: إن جعلته زماناً نظراً في قوله {موعدكم يوم الزينة} مطابق له لزمك شيئان أن نجعل الزمان مخلفاً وأن يعضل عليك ناصب {مكاناً} وإن جعلته مكاناً لقوله {مكاناً سُوى} لزمك أيضاً أن يقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله {موعدكم يوم الزينة} وقراءة الحسن غير مطابقة له {مكاناً} جميعاً لأنه قرأ {يوم الزينة} بالنصب فبقي أن يجعل مصدراً بمعنى الوعد، ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد. ويجعل الضمير في {نخلفه} و{مكاناً} بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: كيف طابقته قوله {موعدكم يوم الزينة} ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً لأنه لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهراً باجتماعهم فيه في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان.
وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير، والمعنى إنجاز وعدكم يوم الزينة وطابق هذا أيضاً من طريق المعنى، ويجوز أن يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى اجعل {بيننا وبينك} وعداً {لا نخلفه} فإن قلت: فبم ينتصب {مكاناً}؟ قلت: بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر، فإن قلت: كيف يطابقه الجواب؟ قلت: أما على قراءة الحسن فظاهر، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير وعدكم وعد يوم الزينة.
ويجوز على قراءة الحسن أن يكون {موعدكم} مبتدأ بمعنى الوقت و{ضحى} خبره على نية التعريف فيه لأنه قد وصف قبل العمل بقوله {لا نخلفه} وهو موصول، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم. وقوله و{ضحى} خبره على نية التعريف فيه، لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه، هو وإن كان ضحى ذلك اليوم بعينه ليس على نية التعريف بل هو نكرة، وإن كان من يوم بعينه لأنه ليس معدولاً عن الألف واللام كسحر ولا هو معرف بالإضافة. ولو قلت: جئت يوم الجمعة بكراً لم ندع أن بكراً معرفة وإن كنا نعلم أنه من يوم بعينه.
وقرأ أبو جعفر وشيبة لا نَخلفْهُ بجزم الفاء على أنه جواب الأمر. وقرأ الجمهور برفعها صفة لموعد. وقال الحوفي {موعداً} مفعول اجعل {مكاناً} ظرف العامل فيه اجعل. وقال أبو علي {موعداً} مفعول أولا لاجعل و{مكاناً} مفعول ثان، ومنع أن يكون {مكاناً} معمولاً لقوله {موعداً} لأنه قد وصف.
قال ابن عطية: وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الأسماء كمثل هذا لم تعمل ولا يعلق بها شيء هو منها، وقد يتوسع في الظروف فيعلق بعد ما ذكرنا لقوله عز وجل {ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان} فقوله إذ متعلق بقوله لمقت. وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة ومنع قوم أن يكون {مكاناً} نصباً على المفعول الثاني لنخلفه، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يحلف الموعد انتهى. وقوله إذا نعت هذا ليس مجمعاً عليه في كل عامل عمل الفعل، ألا ترى اسم الفاعل العاري عن أل إذا وصف قبل العمل في إعماله خلاف البصريون يمنعون والكوفيون يجوزون، وكذلك أيضاً إذا صغر في إعماله خلاف، وأما إذا جمع فلا يعلم خلاف في جواز إعماله، وأما المصدر إذا جمع ففي جواز إعماله خلاف، وأما استثناؤه من المعمولات الظروف فغيره يذهب إلى منع ذلك مطلقاً في المصدر، وينصب إذ بفعل يقدر بما قبله أي مقتكم إذ تدعون.
{ولا أنت} معطوف على الضمير المستكن في {نخلفه} المؤكد بقوله {نحن}. وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب والحسن وقتادة وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وأبو حاتم وابن جرير {سُوًى} بضم السين منوناً في الوصل. وقرأ باقي السبعة بكسرها منوناً في الوصل. وقرأ الحسن أيضاً {سُوى} بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعه الصرف لأن فعلاً من الصفات متصرف كحطم ولبد. وقرأ عيسى سِوَى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل أيضاً مجرى الوقف، ومعنى {سُوًى} أي عدلاً ونصفة. قال أبو علي: كأنه قال قربه منكم قربه منا. وقال غيره: إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرآن، وأن تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق لا تعترضكم فيه الرئاسة وإنما يقصد الحجة. وعن مجاهد وهو من الاستواء لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها، وهذا معنى ما تقدم من قول أبي عليّ قربه منكم قربه منا. وقال الأخفش {سوى} مقصور إن كسرت سينه أو ضممت، وممدود إن فتحتها ثلاث لغات ويكون فيها جميعاً بمعنى غير وبمعنى عدل، ووسط بين الفريقين. وقال الشاعر:
وإن أبانا كان حل بأهله سوى *** بين قيس قيس غيلان والفزر
قال: وتقول مررت برجل سواك وسواك وسواك أي غيرك، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر قاله النحاس. وقالت فرقة: معنى {مكاناً سُوًى} مستوياً من الأرض أي لا وَعر فيه، ولا جبل، ولا أكمة، ولا مطمئن من الأرض بحيث يسير ناظر أحد فلا يرى مكان موسى والسحرة وما يصدر عنهما، قال ذلك واثقاً من غلبة السحرة لموسى فإذا شاهدوا غلبهم إياه رجعوا عما كانوا اعتقدوا فيه.
وقالت فرقة: معناه مكاناً سوى: مكاننا هذا وليس بشيء لأن سوى إذا كانت بمعنى غير لا تستعمل إلا مضافة لفظاً ولا تقطع عن الإضافة.
وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة والزعفراني يوم الزينة بنصب الميم وتقدم تخريج هذه القراءة في كلام الزمخشري وروي أن {يوم الزينة} كان عيداً لهم ويوماً مشهوداً وصادف يوم عاشوراء، وكان يوم سبت. وقيل: هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم. وقيل: يوم النيروز وكان رأس سنتهم. وقيل: يوم السبت فإنه يوم راحة ودعة. وقيل: يوم سوق لهم. وقيل: يوم عاشوراء.
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن فائد وأن تحشر بتاء الخطاب أي يا فرعون وروي عنهم بالياء على الغيبة، والناس نصب في كلتا القراءتين. قال صاحب اللوامح {وأن يحشر} الحاشر {الناس ضحى} فحذف الفاعل للعلم به انتهى. وحذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين. وقال غيره {وأن يحشر} القوم قال ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم لقوله {موعدكم} وجعل {يحشر} لفرعون ويجوز أن يكون {وأن يحشرْ} في موضع رفع عطفاً على {يوم الزينة} وأن يكون في موضع جر عطفاً على {الزينة} وانتصب {ضحًى} على الظرف وهو ارتفاع النهار، ويؤنث ويذكر والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر وهو عند ارتباع النهار الأعلى، وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر. والظاهر أن قوله {قال موعدكم يوم الزينة} من كلام موسى عليه السلام لأنه جواب لقول فرعون {فاجعل بيننا وبينك موعداً} ولأن تعيين اليوم إنما يليق بالمحق الذي يعرف اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. ولقوله {موعدكم} وهو خطاب للجميع، وأبعد من ذهب إلى أنه من كلام فرعون.
{فتولى فرعون} أي معرضاً عن قبول الحق أو {تولّى} ذلك الأمر بنفسه أو فرجع إلى أهله لاستعداد مكائده، أو أدبر على عادة المتواعدين أن يولي كل واحد منهما صاحبه ظهره إذا افترقا. أقوال {فجمع كيده} أي ذوي كيده وهم السحرة. وكانوا عصابة لم يخلق الله أسحر منها {ثم أتى} للموعد الذي كانوا تواعدوه. وأتى موسى أيضاً بمن معه من بني إسرائيل قال لهم موسى {ويلكم لا تفتروا على الله كذباً} وتقدم تفسير ويل في سورة البقرة، خاطبهم خطاب محذر وندبهم إلى قول الحق إذ رأوه وأن لا يباهتوا بكذب.
وعن وهب لما قال للسحرة {ويلكم} قالوا ما هذا بقول ساحر {فيسحتكم} يهلككم ويستأصلكم، وفيه دلالة على عظم الافتراء وأنه يترتب عليه هلاك الاستئصال، ثم ذكر أنه لا يظفر بالبغية ولا ينجح طلبه {من افترى} على الله الكذب.
ولما سمع السحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعت في نفوسهم مهابته {فتنازعوا أمرهم} أي تجاذبوه والتنازع يقتضي الاختلاف. وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن جرير {فَيُسْحِتَكُمْ} بضم الياء وكسر الحاء من أسحت رباعياً. وقرأ باقي السبعة ورويس وابن عباعي بفتحهما من سحت ثلاثياً. وإسرارهم النجوى خيفة من فرعون أن يتبين فيهم ضعفاً لأنهم لم يكونوا مصممين على غلبة موسى بل كان ظناً من بعضهم. وعن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه، وعن قتادة إن كان ساحراً فسنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر.
وقال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب القول، ثم {قالوا إن هذان لساحران} فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبتهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما انتهى. وحكى ابن عطية قريباً من هذا القول عن فرقة قالوا: إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا {إن هذان لساحران} والأظهر أن تلك قيلت علانية، ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع. وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوان والصاحبان من السبعة إنّ بتشديد النون {هذان} بألف ونون خفيفة {لساحران} واختلف في تخريج هذه القراءة. فقال القدماء من النحاة إنه على حذف ضمير الشأن والتقدير إنه هذان لساحران، وخبر {إن} الجملة من قوله {هذان لساحران} واللام في {لساحران} داخلة على خبر المبتدأ، وضعف هذا القول بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا في الشعر وبأن دخول اللام في الخبر شاذ.
وقال الزجاج: اللام لم تدخل على الخبر بل التقدير لهما ساحران فدخلت على المبتدأ المحذوف، واستحسن هذا القول شيخه أبو العباس المبرد والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد. وقيل: ها ضمير القصة وليس محذوفاً، وكان يناسب على هذا أن تكون متصلة في الخط فكانت كتابتها {إن هذان لساحران} وضعف ذلك من جهة مخالفته خط المصحف. وقيل {إنْ} بمعنى نعم، وثبت ذلك في اللغة فتحمل الآية عليه و{هذان لساحران} مبتدأ وخبر واللام في {لساحران} على ذينك التقديرين في هذا التخريج، والتخريج الذي قبله وإلى هذا ذهب المبرد وإسماعيل بن إسحاق وأبو الحسن الأخفش الصغير، والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائماً وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حُكِي ذلك عن الكسائي، ولبني العنبر وبني الهجيم ومراد وعذرة.
وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفاً.
وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير {إنْ} بتخفيف النون هذا بالألف وشدد نون {هذان} ابن كثير، وتخريج هذه القراءة واضح وهو على أن أن هي المخففة من الثقيلة و{هذان} مبتدأ و{لساحران} الخبر واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة على رأي البصريين والكوفيين، يزعمون أن إن نافية واللام بمعنى إلاّ. وقرأت فرقة إن ذان لساحران وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها، وقرأت عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وابن عبيد وأبو عمرو إن هذين بتشديد نون إنّ وبالياء في هذين بدل الألف، وإعراب هذا واضح إذ جاء على المهيع المعروف في التثنية لقوله {فذانك برهانان} {إحدى ابنتي هاتين} بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً. وقال الزجاج: لا أجيز قراءة أبي عمرو لأنها خلاف المصحف. وقال أبو عبيد: رأيتها في الإمام مصحف عثمان هذن ليس فيها ألف، وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها، وقالت جماعة منهم عائشة وأبو عمرو: هذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب.
وقرأ عبد الله إن ذان إلا ساحران قاله ابن خالويه وعزاها الزمخشري لأُبَيّ. وقال ابن مسعود: إن هذان ساحران بفتح أن وبغير لام بدل من {النجوى} انتهى. وقرأت فرقة ما هذا إلاّ ساحران وقولهم {يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما} تبعوا فيه مقالة فرعون {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك} ونسبوا السحر أيضاً لهارون لما كان مشتركاً معه في الرسالة وسالكاً طريقته، وعلقوا الحكم على الإرادة وهم لا اطلاع لهم عليها تنقيصاً لهما وحطاً من قدرهما، وقد كان ظهر لهم من أمر اليد والعصا ما يدل على صدقهما، وعلموا أنه ليس في قدرة الساحر أن يأتي بمثل ذلك، والظاهر أن الضمير في {قالوا} عائد على السحرة خاطب بعضهم بعضاً. وقيل: خاطبوا فرعون مخاطبة التعظيم، والطريقة السيرة والمملكة والحال التي هم عليها. و{المثلى} تأنيث الأمثل أي الفضلى الحسنى. وقيل: عبر عن السيرة بالطريقة وأنه يراد بها أهل العقل والسن والحجى، وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه أي سيدهم، وعن علي نحو ذلك قال: وتصرفات وجوه الناس إليهما. وقيل: هو على حذف مضاف أي {ويذهبا} بأهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى {أرسل معنا بني إسرائيل} بالغوا في التنفيرعنهما بنسبتهما إلى السحر، وبالطبع ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر ثم بإرادة الإخراج من أرضهم ثم بتغيير حالتهم من المناصب والرتب المرغوب فيها.
وحكى تعالى عنهم في متابعة فرعون في قوله {فجمع كيده} قوله {فأجمعوا كيدكم} وقيل: هو من كلام فرعون، والظاهر أنه من كلام السحرة بعضهم لبعض. وقرأ الجمهور {فأجمعوا} بقطع الهمزة وكسر الميم من أجمع رباعياً أي اعزموا واجعلوه مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا ولا يتخلف واحد منكم كالمسألة المجمع عليها. وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم بوصل الألف وفتح الميم موافقاً لقوله {فتولى فرعون فجمع كيده} وتقدم الكلام في جمع وأجمع في سورة يونس في قصة نوح عليه السلام.
وتداعوا إلى الإتيان {صفاً} لأنه أهيب في عيون الرائين، وأظهر في التمويه وانتصب {صفاً} على الحال أي مصطفين أو مفعولاً به إذ هو المكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم. وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه ثم ايتوا بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء تخفيفاً. قال أبو علي وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم. وقال صاحب اللوامح: وذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في العامة كذلك {وقد أفلح اليوم} أي ظفر وفاز ببغيته من طلب العلوّ في أمره وسعى سعيه، واختلفوا في عدد السحرة اختلافاً مضطرباً جداً فأقل ما قيل أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر عصي وحبال، وأكثر ما قيل تسعمائة ألف.


في الكلام حذف تقديره فجاؤوا مصطفين إلى مكان الموعد، وبيد كل واحد منهم عصا وحبل، وجاء موسى وأخوه ومعه عصاه فوقفوا و{قالوا يا موسى إما أن تلقي} وذكروا الإلقاء لأنهم علموا أن آية موسى في إلقاء العصا. قيل: خيروه ثقة منهم بالغلب لموسى، وكانوا يعتقدون أن أحداً لا يقاومهم في السحر. وقال الزمخشري: وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه وتواضع له وخفض جناح، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم، وكان الله عز وجل ألهمهم ذلك وعلم موسى عليه السلام اختيار إلقائهم أولاً مع ما فيه من مقابلة الأدب بأدب حتى يبرزوا ما معهم من مكائد السحر ويستنفذوا أقصى طرقهم ومجهودهم، فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية بينة للناظرين بينة للمعتبرين انتهى. وهو تكثير وخطابة وإن ما بعده ينسبك بمصدر فإما أن يكون مرفوعاً وإما أن يكون منصوباً والمعنى أنك تختار أحد الأمرين، وقدّر الزمخشري الرفع الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا فجعله خبر المبتدأ محذوف، واختار أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره إلقاؤك أول ويدل عليه قوله {وإما أن نكون أول من ألقى} فتحسن المقابلة من حيث المعنى وإن كان من حيث التركيب اللفظي لم تحصل المقابلة لأنا قدّرنا إلقاؤك أول، ومقابلة كونهم يكونون أول من يلقي لكنه يلزم من ذلك أن يكون إلقاؤهم أول فهي مقابلة معنوية. وفي تقدير الزمخشري الأمر إلقاؤك لا مقابلة فيه.
وقدّر الزمخشري النصب اختر أحد الأمرين وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، وتفسير الإعراب {إما} نختار {أن تلقي} وتقدم نحو هذا التركيب في الأعراف.
{قال بل ألقوا} لا يكون الأمر بالإلقاء من باب تجويز السحر والأمر به لأن الغرض في ذلك الفرق بين إلقائهم والمعجزة، وتعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة إذ الأمر مقرون بشرط أي ألقوا إن كنتم محقين لقوله {فأتوا بسورة من مثله} ثم قال {إن كنتم صادقين} وفي الكلام حذف تقديره فألقوا فإذا.
قال أبو البقاء: {فإذا حبالهم} الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا وإذا في هذا ظرف مكان، والعامل فيه ألقوا انتهى. فقوله {فإذا} الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا ليست هذه فاء جواب لأن فألقوا لا تجاب، وإنما هي للعطف عطفت جملة المفاجأة على ذلك المحذوف. وقوله وإذا في هذا ظرف مكان يعني أن إذا التي للمفاجأة ظرف مكان وهو مذهب المبرد وظاهر كلام سيبويه، وقوله: والعامل فيه ألقوا ليس بشيء لأن الفاء تمنع من العمل ولأن إذا هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو {حبالهم وعصيهم} إن لم يجعلها هي في موضع الخبر، لأنه يجوز أن يكون الخبر يخيل، ويجوز أن تكون إذا ويخيل في موضع الحال، وهذا نظير: خرجت فإذا الأسد رابض ورابضاً فإذا رفعنا رابضاً كانت إذا معمولة، والتقدير فبالحضرة الأسد رابض أو في المكان، وإذا نصبتا كانت خبراً ولذلك تكتفي بها، وبالمرفوع بعدها كلاماً نحو خرجت فإذا الأسد.
وقال الزمخشري: يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى {فإذا حبالهم وعصيهم} ففاجأ موسى وقت تخييل حبالهم وعصيهم، وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى. فقوله: والتحقيق فيها إذا كانت الكائنة بمعنى الوقت هذا مذهب الرياشي أن إذا الفجائية ظرف زمان وهو قول مرجوح، وقول الكوفيين أنها حرف قول مرجوح أيضاً وقوله الطالبة ناصباً لها صحيح، وقوله: وجملة تضاف إليها هذا عند أصحابنا ليس بصحيح لأنها إما أن تكون هي خبر المبتدأ وإما معمولة لخبر المبتدأ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة لأنها إما أن تكون بعض لجملة أو معمولة لبعضها، فلا تمكن الإضافة. وقوله خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة قد بينا الناصب لها، وقوله والجملة ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح بل قد نص الأخفش في الأوسط على أن الجملة المصحوبة بقد تليها وهي فعلية تقول: خرجت فإذا قد ضرب زيد عمراً وبنى على ذلك سأله الاشتغال خرجت فإذا زيد قد ضربه عمرو، برفع زيد ونصبه، وأما قوله: والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي فهذا بعكس ما قدّر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم إياه. فإذا قلت: خرجت فإذا السبع، فالمعنى أنه فاجأني السبع وهجم ظهوره.
وقرأ الحسن وعيسى عُصِيَهُم بضم العين حيث كان وهو الأصل لأن الكسر اتباع لحركة الصاد وحركة الصاد لأجل الياء. وفي كتاب اللوامح الحسن وعُصْيهم بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع فهو أيضاً جمع كالعامّة لكنه على فعل. وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروح والوليدان وابن ذكوان تخيل بالتاء مبنياً للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصي و{أنها تسعى} بدل اشتمال من ذلك الضمير. وقرأ أبو السماك تخيل بفتح التاء أي تتخيل وفيها أيضاً ضمير ما ذكر و{أنها تسعى} بدل اشتمال أيضاً من ذلك الضمير لكنه فاعل من جهة المعنى. وقال ابن عطية: إنها مفعول من أجله. وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلسي في كتاب الكامل من تأليفه عن أبي السماك أنه قرأ تخيل بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل، و{أنها تسعى} في موضع نصب على المفعول به.
ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن والثقفي يعني عيسى، ومن بني تخيل للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله للمحنة والابتلاء وروى الحسن بن أيمن عن أبي حيوة نخيل بالنون وكسر الياء، فالمخيل لهم ذلك هو الله والضمير في {إليه} الظاهر أنه يعود على موسى لقوله قبل {قال بل ألقوا} ولقوله بعد {فأوجس في نفسه خيفة موسى} وقيل: يعود على فرعون، والظاهر من القصص أن الحبال والعصي كانت تتحرك وتنتقل الانتقال الذي يشبه انتقال من قامت به الحياة، ولذلك ذكر السعي وهو وصف من يمشي من الحيوان، فروى أنهم جعلوا في الحبال زئبقاً وألقوها في الشمس فأصاب الزئبق حرارة الشمس فتحرك فتحركت العصي والحبال معه. وقيل: حفروا الأرض وجعلوا تحتها ناراً وكانت العصي والحبال مملوءة بزئبق، فلما أصابتها حرارة الأرض تحركت وكان هذا من باب الدّرك. وقيل: إنها لم تتحرك وكان ذلك من سحر العيون وقد صرح تعالى بهذا فقالوا {سحروا أعين الناس} فكان الناظر يخيل إليه أنها تنتقل. وتقدم شرح أوجس.
وقال الزمخشري: كان ذلك لطبع الجبلة البشرية وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله وهو قول الحسن. وقيل: كان خوفه على الناس أن يفتتنوا لهول ما رأى قبل أن يلقي عصاه وهو قول مقاتل، والإيجاس هو من الهاجس الذي يخطر بالبال وليس يتمكن و{خيفة} أصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون خوفه بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب.
{إنك أنت الأعلى} تقرير لغلبته وقهره وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التوكيد وبتكرير الضمير وبلام التعريف، وبالأعلوية الدالة على التفضيل {وألق ما في يمينك} لم يأت التركيب وألق عصاك لما في لفظ اليمين من معنى اليمن والبركة. قال الزمخشري: وقوله {ما في يمينك} ولم يقل عصاك جائز أن يكون تصغيراً لها أي لا تبالِ بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العُوَيد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يتلقفها على حدته وكثرتها وصغره وعظمها، وجائز أن يكون تعظيماً لها أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها، فألقه تتلقفها بإذن الله وتمحقها انتهى. وهو تكثير وخطابه لا طائل في ذلك.
وفي قوله {تلقف} جمل على معنى ما لا على لفظها إذ أطلقت ما على العصا والعصا مؤنثة، ولو حمل على اللفظ لكان بالياء. وقرأ الجمهور تَلَقَّف بفتح اللام وتشديد القاف مجزوماً على جواب الأمر. وقرأ ابن عامر كذلك وبرفع الفاء على الاستئناف أو على الحال من الملقى. وقرأ أبو جعفر وحفص وعصمة عن عاصم {تَلْقَفْ} بإسكان اللام والفاء وتخفيف القاف وعن قنبل أنه كان يشدد من تلقّف يريد يتلقف.
وقرأ الجمهور {كيد} بالرّفع على أن {ما} موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف، ويحتمل أن تكون {ما} مصدرية أي أن صنعتم كيد، ومعنى {صنعوا} هنا زوّروا وافتعلوا كقوله {تلقف ما يأفكون} وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن عليّ {كيد سحر} بالنصب مفعولاً لصنعوا وما مهيئة. وقرأ أبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير وحمزة والكسائي سِحْر بكسر السين وإسكان الحاء بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر، أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه أو بذاته، أو بين الكيد لأنه يكون سحراً وغير سحر كما تبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو.
وقرأ الجمهور ساحر اسم فاعل من سحر، وأفرد ساحر من حيث إن فعل الجميع نوع واحد من السحر، وذلك الحبال والعصي فكأنه صدر من ساحر واحد لعدم اختلاف أنواعه. وقال الزمخشري: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى أن قوله {ولا يفلح الساحر} أي هذا الجنس انتهى.
وعرف في قوله {ولا يفلح الساحر} لأنه عاد على ساحر النكرة قبله كقوله {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} وقال الزمخشري: إنما نكر يعني أولاً من أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه كقول العجاج:
في سعي دنيا طال ما قد مدت ***
وفي حديث عمر رضي الله عنه: لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة المراد تنكير الأمر كأنه قال: إنما صنعوا كيد سحري وفي سعي دنياوي وأمر دنياوي وأخراوي انتهى. وقول العجاج. في سعي دنيا، محمول على الضرورة إذ دنيا تأنيث الأدنى، ولا يستعمل تأنيثه إلاّ بالألف واللام أو بالإضافة وأما قول عمر فيحتمل أن يكون من تحريف الرواة.
ومعنى {ولا يفلح} لا يظفر ببغيته {حيث أتى} أي حيث توجه وسلك. وقالت فرقة معناه أن الساحر بقتل حيث تقف وهذا جزاء من عدم الفلاح. وقرأت فرقة أين أتى وبعد هذا جمل محذوفة، والتقدير فزال إيجاس الخيفة وألقى ما في يمينه وتلقفت حبالهم وعصيهم ثم انقلبت عصا، وفقدوا الحبال والعصي وعلموا أن ذلك معجز ليس في طوق البشر {فَأُلْقِي السحرة سجداً} وجاء التركيب {فألقي السحرة} ولم يأت فسجدوا كأنه جاءهم أمر وأزعجهم وأخذهم فصنع بهم ذلك، وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين. وقدم موسى في الأعراف وأخر هارون لأجل الفواصل ولكون موسى هو المنسوب إليه العصا التي ظهر فيها ما ظهر من الإعجاز، وأخر موسى لأجل الفواصل أيضاً كقوله {لكان لزاماً وأجل مسمى} وأزواجاً من نبات إذا كان شتى صفة لقوله أزواجاً ولا فرق بين قام زيد وعمرو وقام عمرو وزيد إذا لوأولا تقتضي ترتيباً على أنه يحتمل أن يكون القولان من قائلين نطقت طائفة بقولهم رب موسى وهارون، وطائفة بقولهم: رب هارون وموسى ولما اشتركوا في المعنى صح نسبة كل من القولين إلى الجميع.
وقيل: قدم {هارون} هنا لأنه كان أكبر سناً من {موسى}. وقيل لأن فرعون كان ربَّى موسى فبدؤوا بهارون ليزول تمويه فرعون أنه ربى موسى فيقول أنا ربيته. وقالوا: رب هارون وموسى ولم يكتفوا بقولهم برب العالمين للنص على أنهم آمنوا {برب} هذين وكان فيما قبل يزعم أنه رب العالمين.
وتقدم الخلاف في قراءة {آمنتم} وفي لأقطعن ولأصلبن في الأعراف. وتفسير نظير هذه الآية فيها وجاء هناك آمنتم به وهنا له، وآمن يوصل بالباء إذا كان بالله وباللام لغيره في الأكثر نحو {فما آمن لموسى} {لن نؤمن لك} {وما أنت بمؤمن لنا} {فآمن له لوط} واحتمل الضمير في به أن يعود على موسى وأن يعود على الرب، وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع التمثيل بهم، ولما كان الجذع مقراً للمصلوب واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عُدِّيَ الفعل بفي التي للوعاء. وقيل في بمعنى على. وقيل: نقر فرعون الخشب وصلبهم في داخله فصار ظرفاً لهم حقيقة حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً ومن تعدية صلب بفي قول الشاعر:
وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة *** فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا
وفرعون أول من صلب، وأقسم فرعون على ذلك وهو فعل نفسه وعلى فعل غيره، وهو {ولتعلمنّ أينا} أي أيي وأي من آمنتم به. وقيل: أيي وأي موسى، وقال ذلك على سبيل الاستهزاء لأن موسى لم يكن من أهل التعذيب وإلى هذا القول ذهب الزمخشري قال: بدليل قوله {آمنتم له} واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله كقوله {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} وفيه نفاحة باقتداره وقهره وما ألفه وضَرِيَ به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع لموسى عليه السلام واستضعاف مع الهزء به انتهى. وهو قول الطبري قال: يريد نفسه وموسى عليه السلام، والقول الأول أذهب مع مخرقة فرعون {ولتعلمنّ} هنا معلق و{أينا أشد} جملة استفهامية من مبتدإ وخبر في موضع نصب لقوله {ولتعلمنّ} سدّت مسد المفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كان {لتعلمنّ} معدى تعدية عرف، ويجوز على الوجه أن يكون {أينا} مفعولاً {لتعلمن} وهو مبني على رأي سيبويه و{أشد} خبر مبتدأ محذوف، و{أينا} موصولة والجملة بعدها صلة والتقدير و{لتعلمنّ} من هو {أشد عذاباً وأبقى}.
{قالوا لن نؤثرك} أي لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك وسلامتنا من عذابك {على ما جاءنا من البينات} وهي المعجزة التي أتتنا وعلمنا صحتها. وفي قولهم هذا توهين له واستصغار لما هددهم به وعدم اكتراث بقوله. وفي نسبة المجيء إليهم وإن كانت البينات جاءت لهم ولغيرهم لأنهم كانوا أعرف بالسحر من غيرهم، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر فكانوا على جلية من العلم بالمعجز، وغيرهم يقلدهم في ذلك وأيضاً فكانوا هم الذين حصل لهم النفع بها فكانت بينات واضحة في حقهم.
والواو في {والذي فطرنا} واو عطف على {ما جاءنا} أي وعلى {الذي فطرنا} لما لاحت لهم حجة الله في المعجزة بدؤوا بها ثم ترقوا إلى القادر على خرق العادة وهو الله تعالى وذكروا وصف الاختراع وهو قولهم {الذي فطرنا} تبييناً لعجز فرعون وتكذيبه في ادعاء ربوبيته وإلاهيته وهو عاجز عن صرف ذبابة فضلاً عن اختراعها. وقيل: الواو للقسم وجوابه محذوف، ولا يكون {لن نؤثرك} جواباً لأنه لا يجاب في النفي بلن إلاّ في شاذ من الشعر و{ما} موصولة بمعنى الذي وصلته {أنت قاض} والعائد محذوف أي ما أنت قاضيه. قيل: ولا يجوز أن تكون {ما} مصدرية لأن المصدرية توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر انتهى. وهذا ليس مجمعاً عليه بل قد ذهب ذاهبون من النحاة إلى أن {ما} المصدرية توصل بالجملة الاسمية. وانتصب {هذه الحياة} على الظرف وما مهيئة ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن قضاءك كائن في {هذه الحياة الدنيا} لا في الآخرة، بل في الآخرة لنا النعيم ولك العذاب.
وقرأ الجمهور {تقضي} مبنياً للفاعل خطاباً لفرعون. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة تُقْضَى مبنياً للمفعول هذه الحياة بالرفع اتسع في الظرف فأُجْرِي مجرى المفعول به، ثم بُني الفعل لذلك ورفع به كما تقول: صم يوم الجمعة وولد له ستون عاماً. ولم يصرح في القرآن بأنه أنفذ فيهم وعيده ولا أنه قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، بل الظاهر أنه تعالى سلمهم منه ويدل على ذلك قوله {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} وقيل: أنفذ فيهم وعيده وصلبهم على الجذوع وإكراهه إياهم على السحر. قيل: حملهم على معارضة موسى. وقيل: كان يأخذ ولدان الناس ويجربهم على ذلك فأشارت السحرة إلى ذلك قاله الحسن {والله خير وأبقى} ردّ على قوله {أينا أشد عذاباً وأبقى} أي وثواب الله وما أعده لمن آمن به، روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائماً ففعل فوجده ويحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ويظهر من قولهم أئن لنا لأجراً عدم الإكراه.
{إنه من يأت}- إلى- {من تزكى} قيل هو حكاية لهم عظة لفرعون. وقيل: خبر من الله لا على وجه الحكاية تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة موعظة وتحذيراً، والمجرم هنا الكافر لذكر مقابله {ومن يأته مؤمناً} ولقوله {لا يموت فيها ولا يحيا} أي يعذب عذاباً ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح، بل يعاد جلده ويجدد عذابه فهو لا يحيا حياة طيبة بخلاف المؤمن الذي يدخل النار فهم يقاربون الموت ولا يجهز عليهم فهذا فرق بين المؤمن والكافر. وفي الحديث «إنهم يماتون إماتة» وهذا هو معناه لأنه لا يموت في الآخرة و{تَزَكَّى} تطهَّر من دنس الكفر. وقيل: قال لا إله إلا الله.

1 | 2 | 3 | 4